كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهذا هو الخبر اليقين!
والآن وقد حاقت بهم عاقبة المكر والتبييت، وعاقبة البطر والمنع، يتقدم أوسطهم وأعقلهم وأصلحهم ويبدو أنه كان له رأي غير رأيهم.
ولكنه تابعهم عندما خالفوه وهو فريد في رأيه، ولم يصر على الحق الذي رآه فناله الحرمان كما نالهم. ولكنه يذكرهم ما كان من نصحه وتوجيهه:
{قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون}؟!
والآن فقط يسمعون للناصح بعد فوات الأوان:
{قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين}..
وكما يتنصل كل شريك من التبعة عند ما تسوء العاقبة، ويتوجه باللوم إلى الآخرين.. ها هم أولاء يصنعون:
{فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون}!
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعاً بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة. عسى أن يغفر الله لهم، ويعوضهم من الجنة الضائعة على مذبح البطر والمنع والكيد والتدبير:
{قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون}..
وقبل أن يسدل السياق الستار على المشهد الأخير نسمع التعقيب:
{كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}..
وكذلك الابتلاء بالنعمة. فليعلم المشركون أهل مكة. {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} ولينظروا ماذا وراء الابتلاء.. ثم ليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا:
{ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}!
وكذلك يسوق إلى قريش هذه التجربة من واقع البيئة، ومما هو متداول بينهم من القصص، فيربط بين سنته في الغابرين وسنته في الحاضرين؛ ويلمس قلوبهم بأقرب الأساليب إلى واقع حياتهم. وفي الوقت ذاته يشعر المؤمنين بأن ما يرونه على المشركين من كبراء قريش من آثار النعمة والثروة إنما هو ابتلاء من الله، له عواقبه، وله نتائجه. وسنته أن يبتلي بالنعمة كما يبتلي بالبأساء سواء. فأما المتبطرون المانعون للخير المخدوعون بما هم فيه من نعيم، فذلك كان مثلاً لعاقبتهم: {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}.. وأما المتقون الحذرون فلهم عند ربهم جنات النعيم:
{إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم}..
وهو التقابل في العاقبة، كما أنه التقابل في المسلك والحقيقة.. تقابل النقيضين اللذين اختلفت بهما الطريق، فاختلفت بهما خاتمة الطريق!
وعند هاتين الخاتمتين يدخل معهم في جدل لا تعقيد فيه كذلك ولا تركيب. ويتحداهم ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال عن أمور ليس لها إلا جواب واحد يصعب المغالطة فيه؛ ويهددهم في الآخرة بمشهد رهيب، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبار القوي الشديد:
{أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركآء فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين.
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون}؟!
والتهديد بعذاب الآخرة وحرب الدنيا يجيء كما نرى في خلال ذلك الجدل، وهذا التحدي. فيرفع من حرارة الجدل، ويزيد من ضغط التحدي.
والسؤال الاستنكاري الأول: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} يعود إلى عاقبة هؤلاء وهؤلاء التي عرضها في الآيات السابقة. وهو سؤال ليس له إلا جواب واحد.. لا. لا يكون. فالمسلمون المذعنون المستسلمون لربهم، لا يكونون أبداً كالمجرمين الذين يأتون الجريمة عن لجاج يسمهم بهذا الوصف الذميم! وما يجوز في عقل ولا في عدل أن يتساوى المسلمون والمجرمون في جزاء ولا مصير.
ومن ثم يجيء السؤال الاستنكاري الآخر: {ما لكم كيف تحكمون}.. ماذا بكم؟ وعلام تبنون أحكامكم؟ وكيف تزنون القيم والأقدار؟ حتى يستوي في ميزانكم وحكمكم من يسلمون ومن يجرمون؟!
ومن الاستنكار والإنكار عليهم ينتقل إلى التهكم بهم والسخرية منهم: {أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون}.. فهو التهكم والسخرية أن يسألهم إن كان لهم كتاب يدرسونه، هو الذي يستمدون منه مثل ذلك الحكم الذي لا يقبله عقل ولا عدل؛ وهو الذي يقول لهم: إن المسلمين كالمجرمين! إنه كتاب مضحك يوافق هواهم ويملق رغباتهم، فلهم فيه ما يتخيرون من الأحكام وما يشتهون! وهو لا يرتكن إلى حق ولا إلى عدل، ولا إلى معقول أو معروف!
{أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون}.. فإن لا يكن ذلك فهو هذا. وهو أن تكون لهم مواثيق على الله، سارية إلى يوم القيامة، مقتضاها أن لهم ما يحكمون، وما يختارون وفق ما يشتهون! وليس من هذا شيء. فلا عهود لهم عند الله ولا مواثيق. فعلام إذن يتكلمون؟! وإلام إذن يستندون؟!
{سلهم أيهم بذلك زعيم}.. سلهم من منهم المتعهد بهذا؟ من منهم المتعهد بأن لهم على الله ما يشاءون، وأن لهم ميثاقاً عليه ساري المفعول إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون؟!
وهو تهكم ساخر عميق بليغ يذيب الوجوه من الحرج والتحدي السافر المكشوف!
{أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين}..
وهم كانوا يشركون بالله. ولكن التعبير يضيف الشركاء إليهم لا لله. ويتجاهل أن هناك شركاء. ويتحداهم أن يدعوا شركاءهم هؤلاء إن كانوا صادقين.. ولكن متى يدعونهم؟
{يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون}.
فيقفهم وجهاً لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين. وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم الله لا تتقيد في علمه بزمن. واستحضار للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقاً حياً حاضراً في النفوس على طريقة القرآن الكريم.
والكشف عن الساق كناية في تعبيرات اللغة العربية المأثورة عن الشدة والكرب. فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق، ويشتد الكرب والضيق.. ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود، إما لأن وقته قد فات، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون: {مهطعين مقنعي رؤوسهم} وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم! وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف..
ثم يكمل رسم هيئتهم: {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة}.. هؤلاء المتكبرون المتبجحون. والأبصار الخاشعة والذلة المرهقة هما المقابلان للهامات الشامخة والكبرياء المنفوخة. وهي تذكر بالتهديد الذي جاء في أول السورة: {سنسمه على الخرطوم}.. فإيحاء الذلة والانكسار ظاهر عميق مقصود!
وبينما هم في هذا الموقف المرهق الذليل، يذكرهم بما جرهم إليه من إعراض واستكبار: {وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون}.. قادرون على السجود. فكانوا يأبون ويستكبرون.. كانوا. فهم الآن في ذلك المشهد المرهق الذليل. والدنيا وراءهم. وهم الآن يدعون إلى السجود فلا يستطيعون!
وبينما هم في هذا الكرب، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب:
{فذرني ومن يكذب بهذا الحديث}..
وهو تهديد مزلزل.. والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول صلى الله عليه وسلم-: «خل بيني وبين من يكذب بهذا الحديث. وذرني لحربه فأنا به كفيل».
ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث؟
إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف! هذه النملة المضعوفة. بل هذه الهباءة المنثورة.. بل هذا العدم الذي لا يعني شيئاً أمام جبروت الجبار القهار العظيم!
فيا محمد. خل بيني وبين هذا المخلوق. واسترح أنت ومن معك من المؤمنين. فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين. الحرب معي. وهذا المخلوق عدوي، وأنا سأتولى أمره فدعه لي، وذرني معه، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا!
أي هول مزلزل للمكذبين! وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين.. المستضعفين...؟
ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف!
{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}..
وإن شأن المكذبين، وأهل الأرض أجمعين، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير.. ولكنه سبحانه يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان. وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارّون.
وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير. وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب..
وليس أكبر من التحذير، وكشف الاستدراج والتدبير، عدلاً ولا رحمة. والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير. وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم، فقد كشف القناع ووضحت الأمور!
إنه سبحانه يمهل ولا يهمل. ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته. ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم ذرني ومن يكذب بهذا الحديث، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان. فسأملي لهم، واجعل هذه النعمة فخهم! فيطمئن رسوله، ويحذر أعداءه.. ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب!
وفي ظل مشهد القيامة المكروب وظل هذا التهديد المرهوب يكمل الجدل والتحدي والتعجيب من موقفهم الغريب:
{أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون}..
فثقل الغرامة التي تطلبها منهم أجراً على الهداية هو الذي يدفعهم إلى الإعراض والتكذيب، ويجعلهم يؤثرون ذلك المصير البشع، على فداحة ما يؤدون؟!
{أم عندهم الغيب فهم يكتبون}..
ومن ثم فهم على ثقة مما في الغيب، فلا يخيفهم ما ينتظرهم فيه، فقد اطلعوا عليه وكتبوه وعرفوه؟ أو أنهم هم الذين كتبوا ما فيه. فكتبوه ضامناً لما يشتهون؟
ولا هذا ولا ذاك؟ فما لهم يقفون هذا الموقف الغريب المريب؟!
وبذلك التعبير الموحي الرعيب: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث}.. وبالإعلان عن خطة المعركة والكشف عن سنة الحرب بين الله وأعدائه المخدوعين.. بهذا وذلك يخلي الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المعركة بين الإيمان والكفر. وبين الحق والباطل. فهي معركته سبحانه، وهي حربه التي يتولاها بذاته.
والأمر كذلك في حقيقته، مهما بدا أن للنبي صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين دوراً في هذه الحرب أصيلاً. إن دورهم حين ييسره الله لهم هو طرف من قدر الله في حربه مع أعدائه. فهم أداة يفعل الله بها أو لا يفعل. وهو في الحالين فعال لما يريد. وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد.
وهذا النص نزل والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء. فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين، والفزع للمغترين بالقوة والجاه والمال والبنين. ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في المدينة. وشاء الله أن يكون للرسول ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة. ولكنه هنالك أكد لهم ذلك القول الذي قاله لهم وهم في مكة قلة مستضعفون. وقال لهم وهم منتصرون في بدر:
{فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً إن الله سميع عليم} وذلك ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة. حقيقة أن المعركة معركته هو سبحانه. وأن الحرب حربه هو سبحانه. وأن القضية قضيته هو سبحانه. وأنه حين يجعل لهم فيها دوراً فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسناً. وليكتب لهم بهذا البلاء أجراً. أما حقيقة الحرب فهو الذي يتولاها. وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبها.. وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم. وهم حين يخوضونها أداة لقدرته ليست هي الأداة الوحيدة في يده!
وهي حقيقة واضحة من خلال النصوص القرآنية في كل موضع، وفي كل حال، وفي كل وضع. كما أنها هي الحقيقة التي تتفق مع التصور الإيماني لقدرة الله وقدره، ولسنته ومشيئته، ولحقيقة القدرة البشرية التي تنطلق لتحقيق قدر الله.. أداة.. ولن تزيد على أن تكون أداة..
وهي حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن، في حالتي قوته وضعفه على السواء. ما دام يخلص قلبه لله، ويتوكل في جهاده على الله. فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الحق والباطل والإيمان والكفر، إنما هو الله الذي يكفل له النصر. وضعفه لا يهزمه لأن قوة الله من ورائه وهي التي تتولى المعركة وتكفل له النصر. ولكن الله يملي ويستدرج ويقدر الأمور في مواقيتها وفق مشيئته وحكمته، ووفق عدله ورحمته.
كما أنها حقيقة تفزع قلب العدو، سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة. فليس المؤمن هو الذي ينازله، إنما هو الله الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته. الله الذي يقول لنبيه {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} وخل بيني وبين هذا البائس المتعوس! والله يملي ويستدرج فهو في الفخ الرعيب المفزع المخيف، ولو كان في أوج قوته وعدته.. فهذه القوة هي ذاتها الفخ وهذه العدة هي ذاتها المصيدة.. {وأملي لهم إن كيدي متين}! أما متى يكون. فذلك علم الله المكنون! فمن يأمن غيب الله ومكره؟ وهل يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون؟
وأمام هذه الحقيقة يوجه الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر. الصبر على تكاليف الرسالة. والصبر على التواءات النفوس. والصبر على الأذى والتكذيب. الصبر حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد. ويذكره بتجربة أخ له من قبل ضاق صدره بهذه التكاليف، فلولا أن تداركته نعمة الله لنبذ وهو مذموم:
{فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعرآء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين}..
وصاحب الحوت هو يونس عليه السلام كما جاء في سورة الصافات. وملخص تجربته التي يذكر الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم لتكون له زاداً ورصيدا، وهو خاتم النبيين، الذي سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير، وصاحب الرصيد الأخير، وصاحب الزاد الأخير.